التفكر ((أولو الألباب))
يا هشام
"أَصلحُ أيامك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو ؟ وأعدّ له الجواب فإنّك موقوف ومسؤول، وخذ موعظتك من الدهر وأهله فإن الدهر طويله قصير وقصيره طويل فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك.وانظر في تصرف الدهر وأحواله فإن ما هو آت من الدنيا كما ولى منها فاعتبر بها، وقال علي بن الحسين عليه السلام: إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال. فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس".
تمهيد
التفكر, هو العنوان الذي انتخبناه من بين الكلمات التي وردت في هذه المقاطع من الوصيّة المباركة, وقد أشار فيها الإمام عليه السلام إلى عدة تأملات في الدنيا وحال أهلها, ولعل هذا النوع من التذكير من أشد المواعظ تأثيراً على المتلقي, لأنها من صميم ما يراه بحواسه, فموت الأحياء, وانقلاب الأيام شواهد يراها المرء وقد لا يلتفت للعبرة فيها, لذا سنغوص في مضمون ما أشار له الإمام في هذه الكلمات الكريمة.
أصلح أيام الإنسان
قال عليه السلام: "يا هشام أصلح أيامك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو؟ وأعد له الجواب فإنك موقوف ومسؤول".
لأن اليوم الذي انقضى ذهب بما فيه من خير أو شر, فمن استزاد فيه من الخير غنم, ومن كسب خطيئة قد يدرك توبتها في أيامٍ بقيت لا يعلم عددها, ولكن اليوم الأصلح هو اليوم الذي سيأتي, فالقرار فيه لا زال في ملك يدك, فهو كالكلمة التي لم تخرج من لسانك, فأنت يمكنك أن تقرّر متى تخرج, وبأي نحو, وكذا اليوم الآتي فهو بيدك يمكنك فيه أن تختار بين أن يكون يوم طاعة لله خالياً من أي معصية, أو يوماً مليئاً بالذنوب والآثام, ولذا هذا اليوم يومك الأصلح, وكأن الإمام عليه السلام يقول لهشام أن لا يضيع فرصة اليوم الأصلح, لأن هذا اليوم الأصلح يتكرر كلما نبض القلب وضجت في أنحاء الجسد الحياة, فاجعله اليوم الأخير لو استطعت بما تستزيد فيه من الطاعة, لأنك مسؤول عنه يوم القيامة, ولذا حضّر جوابه الذي يجرك إلى السعادة.
التفكر
ثم حث الإمام عليه السلام هشاماً رحمه الله على التفكر في الدهر وأهله فقال: "وخذ موعظتك من الدهر وأهله فإن الدهر طويله قصير وقصيره طويل, فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك".فأما أن الدهر طويله قصير, فهو مضمون ما أشار له رسول الرحمة الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:"ترك الفرص غصص، الفرص تمر مر السحاب".
وكذا تسير بنا الأيام سراعاً, ولا تمضي بنا سنة حتى نفاجأ برحيلها وقدوم سنة أخرى, فإننا لا نشعر إلا والأيام تسير بنا, وكم يتأوه الواحد منا حين يتذكر ما مر عليه من الأحداث ويقول: حتى لكأنَّها كانت بالأمس.
وأما قول الإمام عليه السلام "وقصيره طويل" فالمراد به أن ما نشعر أنّه أيام قصيرة في الدنيا طويل حسابه يوم الجزاء, حيث يُسأَل المرء عن كل شيء: عن النفَس الذي أخرجه, وعن القرش وأقل من القرش, وما أصعب المداقة يومئذٍ, فلنحذر كل الحذر من أن تضيع فرصتنا القصيرة في الدنيا بالركون إليها والغرق في وحلها, لنأتي بعدها بحساب يطول ويعسر.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة وكم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً والموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحاً".ثم قال عليه السلام: "فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك".
يقول العلامة المازندراني "فإن العلم بفناء كلِّ شيءٍ من الدهر وما يتعلّق به يقتضي تركه وترك تعلق القلب به ويتفرع منه الاجتهاد في العمل الخالص للآخرة وهو العمل الذي ترى ثوابه بعين البصيرة وتتيقن بحصوله فيها، وثواب هذا العمل هو الذي يتعلّق الطمع في حصوله في الآخرة قطعاً، وأما العمل غير الخالص فالطمع في حصول ثوابه غير متحقق بل غير معقول لدلالة الأخبار على ذلك" .
وإن التفكر في ثواب العمل يساعد على طرد الشيطان من النية, فحين يتفكر المرء فيما أعد الله تعالى له من الثواب والخير يوم القيامة يغفل عن الدنيا ورأي أهلها, فيبني بذلك سداً يمنع تسرب الشرك إلى العمل, فحين يتسرب الشرك للعمل يحبطه, يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾1, ويقول في آية أخرى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾2.وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ"3.
عبادة المخلصين
ثم قال عليه السلام:"... وانظر في تصرّف الدهر وأحواله فإنّ ما هو آت من الدنيا كما ولى منها فاعتبر بها" ، وقال علي بن الحسين عليه السلام: "إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها عند وليٍّ من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال"4.
ثم أعطى الإمام عليه السلام مثالاً في التفكر العملي, حيث بيّن أن ما انقضى من أيام الدنيا وما سيأتي منها هو نفسه. وفي الحقيقة أن المتأمل يرى تشابه الأيام, ففي كل يوم من أيام الدنيا يستيقظ أحدنا لعمله أو البحث عن العمل, ويلتقي بأهلها, ثم يدركه الجوع فيأكل وتدركه الحاجة فيسعى لقضائها, وقد لا تنقضي في يوم أو أيام, فيبالغ في السعي, وهكذا تمرّ الأيام بدون أي شعور بها وهو غارق كل الغرق في ملاحقة حاجاته التي لا تنتهي, ولا يدرك الإنسان كل طموحه فيما خلا من أيام ولن يدركه فيما سيأتي لأن الموت سيقف حاجزاً بينهما ليضح حدّاً لانكبابه وسعيه الدؤوب.
لذا كانت الدنيا عند أولياء الله كفيء الظلال, فلا يدوم الظل في مكانه بل يميل من مكان لآخر بتحرك الشمس, وجمال التشبيه هنا, أن المرء لو أراد أن يتخذ هذا الظل هدفاً له لقضى سائر النهار في ملاحقته من زاوية لأخرى ولا ينعم بثباته إلا قليلاً من الزمن لا يكفي لشبع من نوم, ولا حتى ساعة واحدة, وفوق هذا ففي نهاية النهار ستغرب الشمس ويختفي الظل الذي كان هدفاً وهكذا دواليك...
هذا هو التفكر في حال الدنيا الذي أمرنا به أهل البيت عليهم السلام فعن الإمام الصادق عليه السلام لما سأله الحسن الصيقل: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكر؟ قال: يمرُّ بالدور الخربة فيقول: أين بانوك؟ أين ساكنوك؟ ما لك لا تتكلمين؟"5.
وعن الإمام الحسين الشهيد عليه السلام: "يا بن آدم تفكر، وقل: أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمروا خرابها واحتفروا أنهارها، وغرسوا أشجارها، ومدنوا مدائنها، فارقوها وهم كارهون، وورثها قوم آخرون، ونحن بهم عما قليل لاحقون. يا بن آدم أذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعك بين يدي الله، تشهد جوارحك عليك يوم تزلّ فيه الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، وتبيضّ وجوه، وتبدو السرائر، ويوضع الميزان القسط. يا بن آدم أذكر مصارع آبائك، وأبنائك، كيف كانوا، وحيث حلوا، وكأنك عن قليل قد حللت محلهم، وصرت عبرة المعتبرة, ثم أنشد هذه الأبيات:
أين الملوك التي عن حفظها غفلت حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
تلك المدائن في الآفاق خالية عادت خراباً وذاق الموت بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها"6.
وهذا هو الذي وصفته الروايات بعبادة المخلصين, فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين7 وهو من صفات أولي الألباب، يقول الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾"8 .
وفي الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام: "دليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت"9.وأشار العديد من الروايات إلى آثار التفكر، بل إنّ بعض الروايات جعل التفكّر أباً لكل خيرٍ, فعن الإمام الحسن عليه السلام: "أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكر، فإنّ التفكّر أبو كلّ خير وأمّه"10.
وأما أثره في الآخرة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه السلام: "أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت وأفضل العبادة ذكر الموت وأفضل التفكر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة"11.
الرضا بالخسيس
ثم تحدّث الإمام عليه السلام عن التعلّق بالدنيا والرضا بها فقال: "... فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة، فلا تبيعوها بغيرها، فإنّه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس"12.
وبعملية حسابية أو تجارية ومقارنة بين الدنيا والآخرة يعرف الإنسان أين يكون الربح الأكبر, ولكن من يرى الفرق بين ربح أيام قليلة وهناء دائم أبديّ ويختار الزائل والفاني, فقد رضي الخسيس فعلاً, وروي أن الحسين بن علي سيّد الشهداء عليه السلام كثيراً ما كان ينشد هذه الأبيات، وأنها مما أملته نفسه الطاهرة على لسان مكارمه الوافرة:
لئن كانت الأَفعَالُ يوماً لأهلهَا كمَالاً فَحُسنُ الخُلقِ أبهَى وأكمَلُ
وإنْ كانَتِ الأرزَاقُ رِزقاً مُقَدَّراً فَقِلَّةُ جُهدِ المَرءِ فِي الكَسبِ أجْمَلُ
وإنْ كَانَتِ الدُنيَا تُعَدُّ نَفِيسَةً فَدَارُ ثَوَابِ اللهِ أعلى وأنبَلُ
وإنْ كانَتِ الأبدانُ للمَوتِ أنشِئَتْ فَقَتْلُ امرئٍ بالسَيفِ فِي اللهِ أفضَلُ
وإنْ كانَتِ الأموَالُ للتَركِ جَمْعُهَا فَمَا بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ المَرءُ يَبخَلُ؟
*اولو الالباب,سلسلة الدروس الثقافية,نشر:جمعية المعارف,ط:2009م-ص:61-67.
1- النساء:48
2- الزمر:11
3- الحر العاملي - محمد بن الحسن - وسائل الشيعة - دار إحياء التراث - بيروت - ج1، ص43
4- ابن شعبة الحراني - تحف العقول - مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - ص391
5- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3- ص2465
6- القرشي - باقر شريف - حياة الإمام الحسين عليه السلام - مطبعة الآداب - النجف الأشرف - ج1، ص163
7- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3 - ص1799
8- يوسف:109-111
9- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3 - ص1667
10- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3 - ص2463
11- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج14 ص62
12- ابن شعبة الحراني - تحف العقول - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم المقدسة
المصدر شبكة المعارف الاسلامية